(أمنية العودة)
عندما كنت طفلاً صغيراً، في تلك الفترة التي يتمنى فيها الأطفال ممن هم في نفس عمري، بعض الألعاب المُغرية لطفلاً صغير، أو بعض الحلوى التي تشبه الكنز بالنسبة لهم، أو بعض الملابس الأنيقة التي يرونها على غيرهم من أشباههم الصغار، وغيرها من أمنيات الأطفال.
كنت أنا أتمنى شيئاً آخر ظناً مني أن عقلي بدأ يفكر في أشياء هي أقيم وأجمل وأهم من أمنياتهم، ظناً مني أن عقلي بدأ ينضج عن عقول هؤلاء الأطفال الصغار
كانت أكثر ما كنت أرغب من الأمنيات؛ هي أن أصبح رجلاً، شاباً كبير، لأصبح مثل هذا وذاك ممن غرتني بهم الأماني، كُنتُ دائم اللهفة إلى أن أكبر وأصبح رجلاً ظناً مني أن تلك الأمنية هي أكبر الأمنيات، وأجملها، وأهمها في حياتي، وعندما كبرت عرفتُ أن هؤلاء الأطفال وأمنياتهم التي كنت أنظر إليها على أنها أُمنياتٌ تافهةً لا قيمة لها، هي أجمل ما كنت أفتقده وما فقدته في طفولتي، لأنني لم أعش كما عاشوا طفولتهم، ولم أذق ذلك الإحساس الذي ينبض بفرحة الطفولة وبهجتها، وجدتني أني أضعت تلك المرحلة والتي بضياعها ضاعَ كل ما أتى بعدها.
الآن كلما جلست أفكر، وأتخيل، وأحلم، وأتمنى، لا أجد أي أمنية كافية بأن تُشعرني بالسعادة التي فقدتها، إلا تلك الأمنية الأخيرة؛ وهي أمنية العودة إلى طفلي الصغير إلى طفولتي التي أتمنى أن أعود إليها وأعيشُها كما لم أعيشُها من قبل
أمنيتي هي أمنية المُحال " أمنية العودة " إلي، إلى ذاك الطفل الذي نسيت ملامحه، ولم أنسى ما عاناه، ذاك الطفل الذي عاش شاباً وهو طفل فلم يعرف معنى طفولته ولم يذق طعم شبابه، فمشاعره كانت سابقةً لعمره كثيراً كثير، فلا هو عاشَ طفلاً، ولا هو أصبح شاباً في طفولته، عاشَ بين مرحلتين تَمزقَ بينهم، ذاك الطفل الذي كبر وشب فشاب، وكأن طفولته كانت في بطن أمه فوُلدَ فأصبح شاباً في مشاعره، طفلاً في عمره وجسده، ووصل إلى عمر الشباب فأصبح عجوزاً مقهوراً لا حول له ولا قوة، لا هو يستطيع الرجوع ولا هو يستطيع مواكبة الشباب، داخله آلاف المشاعر المختلفة والمتناقضة والمتضاربة والمتشابهة والمتزاحمة، فأصبح مليئاً بأشخاصً كثُر أصبح لا يعرف من هو منهم، بل أصبح لا يعرف منهم أحد.
ماذا لو تحققت أمنيتي وعدت طفلاً !
سأعيش طفولتي، وسأنبذ أفكاراً سابقةً لأوانها، سأصير طفلاً كما يجب أن أعيش، سأتمنى ما كنت لا أتمناهُ، وأحيا كما يجب.
سأفارق أمنياتٌ طاعنة في السن ليس أوانها، وعندما يأتي أوان الأمنيات الكِبار سأشعر بلذتها ولذة الحصول عليها، لن أكون مختلفاً عني، ولن يكون بداخلي أكثر من شخص، سأصبح شخصاً واحد، طفلاً صغير فرحاً بطفولته، يضحك كما يضحك الأطفال ويبكي كما يبكون، يلعب مثلهم، يتكلم مثلهم، يُفكر مثلهم، يحلم مثلهم، لن يكون طفلاً بعقل وقلب شاب، حتى لا يصبح شاباً بعقل وقلب عجوز تقهره الانقسامات داخله، فتصبح مشاعره كتجاعيد وجه عجوزاً يتخطى عمره المائة عام.
يا أمنية العودة...
هل من لقاءً بِكِ...
قلباً تمناكِ ليُصبحَ مثلكِ...
طفلاً صغيراً لا تفارقه ابتسامه...
قلباً بشوشً لا يعذبه ازدحامه...
قلباً تمنى بالطفولةِ يلتقي.
يا أمنية العودة...
هل من لقاءً بِكِ...
إبراهيم سعيد
Ibrahim Said